ركود "قاتل" للسياحة بمدن الشمال بسبب تدهور القدرة الشرائية للأسر والارتفاع "الفاحش" لأسعار الفنادق والإقامات والمطاعم.. وإسبانيا وجهة المغاربة المفضلة
صيف هادئ وغير مألوف، ذاك الذي تعيشه السواحل الشمالية على واجهة المملكة المتوسطية، كنتيجة حتمية لتراجع توافد آلاف المصطافين المغاربة والأجانب لقضاء عطلة الصيف وتحريك عجلة التنمية والاقتصاد بحواضر طنجة، مارتيل، المضيق، الحسيمة وغيرهم من المدن التي تعوّدت منذ عقود استقبال السياح فور حلول الموسم الصيفي مع تسجيل ذروته السياحية بداية شهر يوليوز من كل سنة.
وفي مشهد مغاير وصادم، تكاد مدن الشمال بصفة عامة تخلو من زوارها المألوفين في الصيف، فلا الشوارع مكتظة بالسياح والمهاجرين، ولا الشواطئ تشهد إنزالاً للمصطافين القادمين من كل صوب في ربوع المملكة، حتى أن سماسرة الشقق المعروضة للإيجار ممن كانوا يشتكون الاكتظاظ تغيّرت لجهتهم ومضمون شكواهم وباتوا يتحدّثون عن "موت الحركة"، في إشارة لضعف الإقبال هذه السنة.
وحالة الركود "غير المسبوق" الذي يعيشه قطاع السياحة في شمال المملكة بالمقارنة مع سنوات مضت، من شأنه أن يؤثر على القطاع السياحي وعائداته ويحرم فعلياً فئات عريضة من موسم مطبوع بالرواج والحركية، كما ينذر من جهة ثانية بتكبد أرباب ومهنيي القطاع خسائر فادحة، لم تكن في حسبان وزارة السياحة، وهي تحتفي قبل أيام بارتفاع إيرادات السياحة في المغرب بنسبة تجاوزت 1.6% خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، وتعد على لسان فاطمة الزهراء عمور بأن تواصل عائدات السياحة نموها، بما يتماشى مع توقعات الوزارة خلال العام الجاري.
ووفق تقديرات محمد رضا، وهو منعش عقاري في مدينة مارتيل، فقد تراجع الإقبال على المدينة الساحلية التي كانت إلى حدود السنة الماضية محجّاً محبوباً للمغاربة بنسبة تفوق 75 في المائة، مؤكداً أن خلو المدينة من ضيوفها تسبب في حالة ركود غير مسبوقة تُذكر الساكنة والفاعلين المهنيين في المنطقة بأزمة "كوفيد 19".
رضا، وفي حديثه لـ "الصحيفة"، أكد تراجع الطلب على الشقق العائلية، وكذا الفندقية، وهذا ليس فقط على مستوى مدينة مارتيل لوحدها لكن أيضاً كل المدن المجاورة التي باتت تعزف ذات اللحن، وذلك على الرغم من تراجع الأسعار، مورداً: "المنازل والشقق المفروشة العائلية التي كنا نوفرها في السنوات السابقة بحوالي 1300 درهم لليلة الواحدة، باتت اليوم في حدود 600 درهم، أما الشقق التي كنا نؤجرها بحوالي 800 درهم باتت في حدود 300 أو 400 درهم، ومع ذلك العرض أكثر من الطلب".
وبالبحث عن خيارات الإيجار في booking أو airbnb وباقي التطبيقات المختصة، بما فيها تلك الأقل شهرة، لاحظت "الصحيفة" أن مجموعة من الفنادق والدور السياحية خفضت بدورها من التكلفة، وهو ما يجعل العرض أقل بكثير من الذي اعتاده المغاربة في هذه الفترة من السنة، ويُساءل أسباب هذا العزوف غير المألوف عن الاصطياف في مدن الشمال التي لطالما كانت الوجهة المفضلة للمغاربة.
وفي هذا الإطار، قال حميد العباسي، وهو صاحب فندق مصنّف بمدينة طنجة لـ "الصحيفة" إن العرض السياحي "قائم وموجود ومغرٍ، لكن بالفعل هذا العرض المناسب بات يفوق الطلب هذه السنة"، مورداً: "مع العلم أن مدينة "البوغاز" شهدت في فترات سابقة بما فيها فصل الشتاء لحظات أفضل إقبالاً من هذه التي تعيشها، وهي في شهر يوليوز الذي يُفترض أن يكون ذروة فصل الصيف".
وبوجود فرق واضح على مستوى الإقبال هذه السنة الحالية مقارنة مع السنوات السابقة، بما فيها السنة الماضية، يستبعد العباسي حدوث مفاجأة تُعيد الأمور إلى نصابها، إذ لا يتوقع أن يسجل الموسم الحالي أرقاماً مهمة على مستوى المبيت على غرار الموسم الماضي.
وأوضح الفاعل الفندقي في هذا الإطار، بأن السنة الماضية على سبيل المثال في هذه الفترة كان فندقه في طنجة ممتلئاً عن آخره، والأمر نفسه في المضيق، لكن اليوم الطاقة الاستيعابية لفنادقه لم ترقَ إلى المستوى المطلوب، بل ولم تصل حتى إلى النصف، ليبقى الرهان على شهر غشت المقبل لإنقاذ الموسم.
ويرجع ضعف الإقبال على الاصطياف في مدن الشمال الساحلية هذه السنة إلى عدة عوامل، لعل أبرزها موجة الغلاء المتفاقم وتضرر مداخيل الطبقة الوسطى الذي حال دون توفير ميزانيات الاستجمام والسياحة الصيفية، فضلاً عن تقديم ومنح أجرة شهري يونيو ويوليوز قبل عيد الأضحى من طرف الحكومة لموظفي القطاع العام، ما أربك التوازن المالي للأسرة وترتيبات عطلة الصيف.
وجعلت هذه الظروف مجتمعة، المغاربة يفضلون قضاء العطلة الصيفية في مدنهم الأصلية، والتخلي عن عادة السفر والسياحة المستحبة للترفيه عن النفس في هذه الفترة من السنة، سيما بالنسبة للأسر متوسطة الدخل التي تعتمد على الادخار من أجل قضاء عطلة الصيف.
ولا شك أن قضاء أسبوع واحد على الأقل في مدينة ساحلية، يفرض على الأسر وضع مبالغ مهمة كل شهر على جنب طيلة السنة، لكن التضخم القياسي للأسعار يجعل المهمة أكثر صعوبة سنة بعد أخرى، خاصة مع الطوارئ المختلفة، فمصادفة عيد الأضحى مثلاً قبل العطلة الصيفية أربك حسابات الأسر المغربية. وتسليم رواتب شهر يونيو مسبقاً، لمساعدة الأسر على تولي تكاليف العيد، تسبب في إضعافٍ أكثر قدرة عدد كبير من الأسر على السياحة، في حين فضلت بعض الأسر التخلي عن العطلة أو تقليل مدتها، كما هو الحال بالنسبة ليونس. ب، وهو موظف أربعيني في قطاع التعليم، وأب لطفلين فضّل التخلي عن السفر هذه السنة لأسباب مادية محضة.
يونس وفي تصريحه لـ "الصحيفة"، قال إن تزامن عيد الأضحى والمصاريف المصاحبة له بالعطلة الصيفية وقرار الحكومة صرف أجرتين في شهر واحد أزم الأوضاع المالية والاجتماعية للأسر المغربية المتوسطة ومحدودة الدخل، وجعلها تُفكر مليون مرة في مسألة الاصطياف والعطلة، مورداً: "نحن على سبيل المثال أسرة مكونة من أربعة أفراد، والانتقال إلى مدينة أخرى على غرار المضيق، الذي تعودنا السفر إليها بات شبه مستحيل، ذلك أن المصاريف تضاعفت بشكل صاروخي بما فيها تلك الخاصة بالمحروقات، والمبلغ الذي كنا نخصصه للسفر بتنا في حاجة إليه مُضاعفاً اليوم، في ظل غلاء الأسعار.. سيحرم أبنائي من العطلة في مدينتهم المفضلة، لكن ربما السنة المقبلة".
وأضاف المتحدث: "باعتباري رجل تعليم، فإن العطلة الصيفية يفترض أنها أفسح مجال للاصطياف والاستمتاع مع أبنائي بعد موسم دراسي مُتعب لجميعنا، لكن الأقدار والقرارات الحكومية شاءت دون أن أهدي لأطفالي الناجحين العطلة التي يتمنونها".
نفس المبدأ، عبّر عنه الكثيرون ممن تواصلت معهم "الصحيفة" من الطبقة متوسطة الدخل، والتي باتت تشتكي ارتفاع أسعار المعيشة وتراجع مستوى الادخار، خاصة مع الغلاء الذي شهدته أسعار الأضاحي والمواد الأساسية وأسعار الخضر والفواكه، وهي جميعها أسباب أدت إلى التهام أجرة شهرين متتاليين، في حين أن أجرة الشهر الثالث يُفترض أن يُدّخر منها للدخول المدرسي المرتقب، بحسب ما أكدته سناء الخرابي، وهي ممرضة، وأم لثلاثة أطفال أرجأت بدورها العطلة التي تعودت إمضاءها في مارتيل إلى حين ظهور أجرة الشهر المقبل، موردة: "تعودنا أن تكون العطلة في يوليوز لكن هذه السنة أجلتها إلى غشت، وستكون جد قصيرة، فبعدما كنا نمضي 10 أيام على الأقل، نحن مضطرون للاكتفاء بأسبوع على الأكثر بسبب الغلاء والمصاريف المرتقبة المتعلقة بالدخول المدرسي ومرفقاته والتي ستؤزم الأوضاع أكثر فأكثر".
وفي وقت تشتكي الأسر المتوسطة ومحدودة الدخل حرمانها فرصة الترفيه عن النفس ومجازاة الأطفال مقابل كدهم واجتهادهم طيلة السنة الدراسية، بسبب الغلاء المتصاعد وتسبيق الحكومة لأجرتين متتاليتين في شهر واحد، تجد أسر أخرى نفسها مضطرة إلى السفر لخارج البلاد وبالضبط إلى إسبانيا حيث العرض السياحي يتناسب وجيوبهم المتأزمة جراء الغلاء وتمدده ليطال أسعار الخدمات، من السكن بالفنادق ومنازل الكراء ومواقف السيارات وأصحاب كراء المظلات والكراسي ومحلات التغذية والمطاعم وغيرها مع غياب شبه تام للسلطات لضبط الأسعار خلال هذا الفصل.
وعلاقة بالموضوع، يرى بوعزة الخراطي، رئيس الجامعة الوطنية لحماية المستهلك أن عقليات المغاربة تغيّرت وباتت أكثر منطقية وبحثاً عن الاستهلاك ذو الجودة بثمن أقل، مشدّداً على أن هجرة السياح المغاربة صوب إسبانيا كوجهة لقضاء العطل الصيفية مردّه بالدرجة الأولى لسوء الخدمات في بلدهم مقارنة مع الأسعار الصاروخية.
الخراطي وفي تصريح خصّ به "الصحيفة"، قال إن المغاربة تأزموا كثيراً جرّاء موجات الغلاء التي همّت مجموعة من المواد الاستهلاكية في السنوات الأخيرة، كما أنهم عبّروا مراراً عن شكاويهم من سوء الخدمات وتعرّضهم لممارسات منافية لقواعد المنافسة، ولا تحترم المستهلك المغربي الذي يُعامل بطريقة إقصائية في بلده، فيما الأجنبي يُعامل بطريقة أنسب مع العلم أن الإثنين يؤديان مقابلاً لهذه الخدمات.
وشدّد المتحدث على أنه لا يمكن إنجاح أي ورش مرتبط بالسياحة دون تحسين العرض المقدّم للمغاربة والسياحة الداخلية، مورداً: "في فترة كوفيد 19 كانت الظروف الملائمة والتوجه للمصالحة مع السائح المغربي، لكن وفور فتح الحدود عادت الأمور لسابق عهدها، ما جعل المغاربة يتهربون من سوء المعاملة في بلدهم، ويقاطعون بصفة غير مباشرة المنتوج والعرض السياحي المغربي، وهذا ما على المسؤولين والفاعلين في القطاع التنبه إليه".
ويبدو أن إعلان المكتب الوطني المغربي للسياحة، مع حلول فصل الاصطياف والاستجمام لسنة 2024، عن "إطلاق حملة تواصلية كبرى متعددة الوسائط موجهة للسياح الداخليين" بهدف إنعاش السياحة الداخلية، وضخ النفس في العديد من الوجهات السياحية بالمملكة، والتشجيع على السفر والتنقل ما بين مختلف الجهات المغربية، لم يغري الكثير من المغاربة، ممن باتوا يفضلون العزوف عن السياحة الداخلية واستبدالها بتلك العابرة لحدود البلاد، خصوصاً صوب الجارة الشمالية التي لا تدّخر جهداً في استقطاب السياح المغاربة.
وتنتظر إسبانيا بالفعل، استقبال حوالي 41 مليون سائح أجنبي خلال الفترة الصيفية بعدما سبق وسجلت 33 مليوناً في السنة الفارطة 2023 خلال نفس الفترة، فبحسب وزير السياحة جوردي هيريو "نجاح نموذج السياحة الإسباني" راجع لزيادة الإنفاق المرتبط، ورفع مستوى العرض السياحي، الذي جعل جاذبية إسبانيا تتأكد شهراً بعد شهر".
بحسب المعهد الوطني للإحصاء، استقبلت إسبانيا السنة الماضية 85.1 مليون زائر أجنبي، خصوصاً من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، فيما نظراً للدينامية الحالية فإنه من المتوقع تحطيم هذا الرقم القياسي في عام 2024.
بحسب الخبراء الاقتصاديين في كايشا بانك، فإن إسبانيا يمكن أن تستقبل أكثر من 90 مليون سائح أجنبي هذا العام، بفضل "الانتعاش الاقتصادي في أوروبا" وصورة "الأمن" المرتبطة بشبه الجزيرة الإيبيرية، في سياق توترات دولية قوية، وهي العوامل التي يحوزها المغرب بالفعل لكنه لم يُحسن استعمالها أو استثمارها في عرضه السياحي، خصوصاً وأن جارته الشمالية تعاني تزايد الاحتجاجات ضد السياحة المفرطة، سيما في جزر البليار وجزر الكناري وبرشلونة، التي تشهد مظاهرات مؤخراً تطالب بفرض حدود على هذه السياحة، إذ تشتكي الساكنة من ارتفاع أسعار الإسكان نتيجة تحويل العديد من الشقق إلى إيجارات سياحية.
وأمام هذا الوضع المتأزم، قررت العديد من البلديات والمناطق اتخاذ إجراءات للحد من المشكلة، على غرار مدينة برشلونة التي أعلنت عن خطط لإنهاء تأجير الشقق السياحية بحلول عام 2029 لتسهيل الولوج إلى السكن.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :